هذا العمل، الذي جاء نتاج تعاون بين الكاتب الكبير عز الدين المدني والمخرج حافظ خليفة، يمثل الثالث في سلسلة تعاوناتهما بعد "رسائل الحرية" و"عزيزة عثمانة". أنتجته فرقة فن الضفتين، وقدّم رؤية فنية عميقة تستحضر تاريخ الدولة الحفصية لتطرح تساؤلات حول السلطة، الهوية، والدولة في سياق معاصر.
رحلة عبر التاريخ والحاضر
تتمحور المسرحية حول فترة حكم أبي زكرياء يحيى الحفصي، مؤسس الدولة الحفصية في القرن الثالث عشر، مقدمةً تونس كأرض للحضارات وراعية للعدل والإبداع. النص، الذي صدر في نسخة مطولة عن بيت الحكمة، يستخدم هذه الفترة التاريخية كمرآة رمزية للحاضر، حيث يطرح أسئلة جوهرية حول بناء الدولة وتحولات السلطة.
يبرز النص تقابلًا دراميًا بين شخصية أبي زكرياء، رمز الحكم الرشيد، وابنه المستنصر بالله، الذي يمثل الانحراف والتفكك، ليفتح نقاشًا حول مآلات الحكم وأثر القيادة على مصير الأمم.
شارك في العرض نخبة من الممثلين الكبار مثل محمد توفيق الخلفاوي، عزيزة بولبيار، جلال الدين السعدي، ونور الدين العياري، إلى جانب وجوه شابة مثل شهاب شبيل، كمال زهيو، وآدم الجبالي، مما أضفى توازنًا بين الخبرة والطاقة الشبابية.
اقرأ ايضأ:-
نص كثيف وإخراج معاصر
تميز النص بإيقاع مشدود ولغة عربية فصحى دقيقة، تتخللها لمسات من اللهجة التونسية لتقريب الأحداث من الجمهور وكسر الجدية أحيانًا. الحوار، بكثافته الدلالية وتعدد مستوياته التأويلية، جمع بين البعد التاريخي والرمزي والسياسي، محافظًا على طابعه الفني.
بسبب طول النص الأصلي، الذي يتجاوز أربع ساعات، تم تكثيفه بعناية ليحتفظ بجوهره الفكري والتعبيري، مع الحفاظ على الهوية التونسية عبر الكوريغرافيا، الموسيقى، والتشكيل البصري.
قدم المخرج حافظ خليفة رؤية إخراجية حديثة، مستخدمًا تقنية "المابينغ" الرقمية لخلق سينوغرافيا بصرية مبهرة، عززت التماهي بين الصورة والمضمون.
كما أسهمت الرقصات الرمزية، مثل التنورة والسطمبالي، في إضفاء بعد فنتازي روحي، بينما عززت الموسيقى التصويرية الحية لإبراهيم البهلول التفاعل الوجداني للجمهور.
الملابس، التي عكست فخامة العصر الحفصي، والخلفيات المستوحاة من رموز تراثية مثل أبواب المدينة العتيقة وجامع القصبة، عززت البعد الرمزي والهوية التونسية.
جدلية الماضي والحاضر
"أم البلدان" ليست مجرد عرض تاريخي، بل عمل فني يربط بين الماضي والحاضر، متسائلًا عن مفهوم الدولة كمشروع يتطلب إعادة تأسيس مستمرة.
النص ينتقد الانحراف عن قيم الحكم الرشيد، متمثلًا في شخصية المستنصر بالله، ويحذر من تكرار الأخطاء السياسية التي شهدتها تونس بعد ثورة 2010، من صراعات واستقواء بالخارج وركود اقتصادي. كما يطرح تساؤلات حول الديمقراطية، مؤكدًا أنها ثقافة تتطلب وعيًا ونضجًا سياسيًا، وليست مجرد آلية انتخابية.
الهوية تحضر كقضية وجودية، حيث تُعرض تونس كـ"أم البلدان"، فضاء حضاري يقاوم التقلبات عبر وعي نقدي بالتراث. الرموز المعمارية والموسيقية واللباس عززت هذا البعد، مقدمةً الهوية كأداة مقاومة ثقافية.
رؤية الكاتب والمخرج
في الندوة الصحفية عقب العرض، عبر حافظ خليفة عن فخره بهذا العمل، واصفًا إياه استمرارًا لمسيرته المرتبطة بمدينة الحمامات.
وأشار إلى أن النص، الذي تضمن أكثر من 120 شخصية، تم تكثيفه برؤية إخراجية توازن بين الفكر والفرجة، مع الحفاظ على الطابع التونسي. من جانبه، قال عز الدين المدني إن "أم البلدان" ليست سردًا تاريخيًا، بل مرآة للحاضر تستخدم الأسطورة والرمزية لتوسيع التأويل. وأكد أن شخصية أبي زكرياء تمثل نموذج الحاكم العادل الذي دافع عن الهوية وأكرم المرأة.
استمرار الإبداع في الحمامات
يواصل مهرجان الحمامات فعالياته، حيث يتجدد الموعد ليلة 17 جويلية 2025 مع سهرة موسيقية تجمع الثنائي "جذب" بعرضه "Willia"، الذي يمزج التصوف بالإيقاعات الإلكترونية، والفنانة "سوداني" التي تقدم أسلوبًا جريئًا يجمع البوب والديسكو بالإيقاعات التونسية، معلنةً عن ألبومها الأول المرتقب.