عوض سلام يكتب عن افتتاح شهر التراث 2025...سيدة كركوان: نسيج الزمن يروي إرث تونس البوني

شبكة الرؤية الإخبارية المصرية/ تونس/نابل/ كركوان/ كتب: عوض سلام//

على شواطئ رأس الطيب بتونس، حيث تهمس مياه المتوسط بحكايات الحضارات القديمة، استيقظ الموقع الأثري بكركوان في الثامن عشر من أبريل 2025 ليحتضن افتتاح الدورة الرابعة والثلاثين لشهر التراث التونسي. 

عوض سلام يكتب عن افتتاح شهر التراث 2025...سيدة كركوان: نسيج الزمن يروي إرث تونس البوني

تحت شعار "التراث والفن: ذاكرة الحضارة"، وبحضور وزيرة الشؤون الثقافية أمينة الصرارفي، تألق أوبريت "سيدة كركوان" كجوهرة المهرجان. 
هذا العمل الفني، الممزوج بلحن البونية القديمة ومشاهد تاريخية حية، لم يكن مجرد احتفاء بالإرث البوني، بل شهادة على حيوية تونس الثقافية. 
من خلال حوارين حصريين مع مخرج العرض محمد أمين الخماسي والمطربة مريم لعريض، نستكشف كيف نسجت "سيدة كركوان" خيوط الماضي والحاضر، لتعيد إحياء مدينة تجمدت، ودفنها الزمن بين أحضانه.

الأوبريت: رحلة في روح كركوان
كركوان، المدرجة ضمن قائمة التراث العالمي لليونسكو منذ عام 1986، تقف شاهدة على الحياة البونية، دون أن تمسها إعادة البناء الرومانية بعد تدميرها في منتصف القرن الثالث قبل الميلاد. 
أوبريت "سيدة كركوان"، من تصميم وإخراج محمد أمين الخماسي، هو تكريم دقيق لهذا الإرث.
 يقول الخماسي: "العرض مستوحى من تاريخ الموقع، يروي مسيرته من الدمار على يد الجيوش الرومانية إلى اكتشافه من قبل علماء الآثار وتسجيله كتراث عالمي". 
بمشاركة 46 ممثلاً، يمتد العرض على مدار شهر، يمزج بين المسرح والموسيقى والرقص لإعادة إحياء إيقاع الحياة البونية.


تتمحور القصة حول شخصية "أريش"، راو خيالي  يقف عند البرزخ يروي حكاية كركوان، متأملا في انتصاراتها ومآسيها. 
من خلال عينيه، يشهد الجمهور ازدهار المدينة: حرفيون يصنعون الفسيفساء والفخار، تجار يتبادلون الأقمشة المصبوغة بالأرجوان، وكهنة يؤدون طقوسًا مقدسة.
 استخدام اللغة البونية القديمة في النصوص وتسمية الشخصيات يضفي طابعًا أصيلاً، يغمر المتفرجين في عالم تلاشى منذ قرون. 
يوضح الخماسي: "أردنا أن نعكس العادات والتقاليد والمهن القديمة"، مؤكدًا على دور العرض كأرشيف ثقافي. 
مشاهد الغزو الروماني، المصورة بحدة درامية، تبرز النهاية المفاجئة للمدينة، لكن العرض يتطلع إلى المستقبل، مع خطط لتطويره إلى عمل سينمائي يضمن استمرار إرثه خارج خشبة المسرح.
لم يكن الموقع الأثري بكركوان مجرد خلفية، بل لوحة حية.
 كما أشارت وزيرة  الشؤون الثقافية أمينة الصرارفي في كلمتها الافتتاحية، اختيار كركوان لانطلاق شهر التراث كان قرارًا مدروسًا لـ "إبراز قيمة التراث العالمي لتونس وتحفيز الأنشطة الثقافية والاقتصادية حول هذه المواقع". 
مزيج التأثيرات الرقمية، الإضاءة المبهرة، والعروض الحية حول الآثار إلى بوابة زمنية، أسرت الحضور وأكدت جاذبية كركوان الخالدة.

مريم لعريض: صوت يعانق التاريخ
في قلب الرنين العاطفي للأوبريت، يتألق صوت مريم لعريض، المطربة التونسية التي نسجت ألحانها البونية خيطًا يربط الماضي بالحاضر. 
بالنسبة للعريض، التي امتدت مسيرتها الفنية على مدار عشرين عامًا عبر أنواع موسيقية متنوعة، كان "سيدة كركوان" تجربتها الأولى في العمل الجماعي. 


"كانت هذه تجربة جديدة، جمعت بين فني الفردي والعمل المسرحي الجماعي"، تشارك بحماس، "وجودي بين الفنانين، شعورنا بروح واحدة، منح الأداء روحًا خاصة".
لم تقتصر مساهمة لعريض على الأداء؛ فقد كتبت ولحنت أغان، مستلهمة إيقاعات اللغات القديمة لاستحضار العصر البوني. 
"كتابة الأغنية وتلحينها كانا رحلة استكشاف"، تتأمل، "الأغنية تتحدث عن عمق جذورنا، عن اللغات التي شكلت الهوية التونسية".
 أداؤها باللغة البونية المُعاد بناؤها كان تكريمًا مؤثرًا لشعب كركوان، لأفراحهم وأحزانهم. 
وتتطلع لعريض إلى المستقبل، حيث بدأت بإعداد أغانٍ جديدة لعروض قادمة، متخيلة ذخيرة موسيقية تحمل روح الأوبريت إلى جمهور أوسع.
تؤكد مشاركتها على رسالة الأوبريت الأوسع: دمج الفن الفردي مع السرد الجماعي. "دائمًا آمنت بقوة الفن في الربط"، تقول لعريض، "وهذا المشروع سمح لي بدمج صوتي مع تاريخ أرضي".
 كلماتها تعكس روح الأوبريت، حيث كل نغمة وحركة هي جسر بين تراث تونس القديم ونبضها الإبداعي المعاصر.

نسيج متكامل من التراث والفن
كان حفل افتتاح شهر التراث 2025، مع "سيدة كركوان" كقطعته المركزية، درسًا في السرد الثقافي. بدأ الحفل بوصول الوزيرة الصرارفي، تلاه عرض مذهل من الإضاءة والإسقاطات الضوئية التي أنارت آثار كركوان. 
الأوبريت نفسه كان ذروة فنية، ينسج رؤية الخماسي التاريخية مع ألحان لعريض المؤثرة. 
اختتمت التجربة بجولة إرشادية في الموقع ومتحفه المجاور، حيث عُرضت القطع الأثرية البونية كالفخار والمجوهرات والأدوات الطقوسية، لتربط العرض المسرحي بالتاريخ الملموس.
ضمن إخراج الخماسي أن يكون الأوبريت ليس مجرد عرض، بل حوارًا مع ماضي كركوان.
 اختياره لإبراز الحياة اليومية – الحرفيون في عملهم، الطقوس في الأماكن المقدسة – عكس الأهمية الأثرية للموقع، حيث تكشف البيوت بحماماتها وآبارها عن مجتمع يقدر النظافة والتكاتف.
كما أضافت أغاني لعريض عمقًا عاطفيًا، حولت الحقائق التاريخية إلى تجربة محسوسة. معًا، خلقت مساهماتهما رواية متماسكة تكرم تفرد كركوان كالمدينة البونية الوحيدة المحفوظة بالكامل في المتوسط.
يمتد صدى الحدث إلى ما هو أبعد من تأثيره المباشر. بينما يتخيل الخماسي مستقبلًا سينمائيًا للأوبريت، وتخطط لعريض لاستكشافات موسيقية جديدة، تعد "سيدة كركوان" بحمل تراث تونس إلى مسارح عالمية. 
دعوة الوزيرة الصرارفي لـ "الترويج لمواقعنا محليًا ودوليًا" تجد صدى قويًا في هذا العمل، الذي لا يكتفي بالاحتفاء بكركوان، بل يعيد تعريف كيفية تفاعل تونس مع ماضيها.

إرث يبعث من جديد
"سيدة كركوان" ليست مجرد أوبريت؛ بل شهادة حية على قدرة تونس على نسج تراثها القديم في نسيج فنها الحديث. من خلال إخراج محمد أمين الخماسي الرؤيوي وألحان مريم لعريض المفعمة بالروح، يحول العرض كركوان من موقع أثري صامت إلى رواية نابضة بالحياة عن الصمود والإبداع. 
مع انطلاق شهر التراث 2025، يضع هذا العرض الافتتاحي معيارًا عاليًا، يذكرنا بأن ماضي تونس ليس للحفظ فحسب، بل ليُغنى ويُمثل ويُشارك مع العالم. 
في ظلال آثار كركوان، تتكلم سيدة المدينة من جديد، وقصتها تتردد عبر القرون.