عوض سلام يكتب من تونس عن..مهرجانات سُمان تأكها مهرجانات عجاف

شبكة الرؤية الإخبارية المصرية/ تونس/ كتب: عوض سلام:-

كثافة النشاطات والتظاهرات وتعدد المهرجانات في كافة الأنحاء ليست مؤشرا على تعافي الحياة الثقافية في أي بلد، ولا يختلف اثنان، وخاصة داخل المحيط العربي، على أن عطاء تونس للثقافة والفنون لا يضاه بأي بلد، بحسب إمكانياتها طبعا، لكن هذا العطاء، و يا للأسف، يذهب إلى غير أهله.

تحصل جل هذه المهرجانات على تمويل من وزارة الثقافة، والمناديب الجهوية التي تقع في إقليمها هذه المهرجانات

الأمر يعود إلى منظومة فساد استقطبت كافة الأجهزة والمؤسسات المعنية بالأنشطة الفنية والثقافية، بالإضافة إلى ضبابية الرؤية وانعدام الإستراتيجية المنظمة لكافة الهياكل المتدخلة في هذا الشأن، تلك المنظومة التي تأسست وتغلغلت على مدى عشرية بدأت بعد يناير2011.

النتيجة كانت كمّا هائلا من المهرجانات، وكيفا هزيلا من الفائدة الثقافية والفنية، مع استنزاف للميزانية المخصصة، والتي هي أصلا من جيوب دافعي الضرائب الفقراء على وجه التحديد.

 

استنباتات مهرجاناتية أطاحت بالكبريات

تتصدر تونس البلدان العربية من حيث عدد المهرجانات الثقافية والفنّية؛ حيث يوجد بها حوالي 300 مهرجان كلّ عام، نصفُها يُقام خلال فصل الصيف؛ وهي مهرجانات تهتمّ خصوصاً بالغناء والموسيقى، مع مساحات متفاوتة للعروض المسرحية والترفيهية.

وتحصل جل هذه المهرجانات على تمويل من وزارة الثقافة، و"المناديب" الجهوية التي تقع في إقليمها هذه المهرجانات، التي تتوزّع على مناطق مختلفة من البلاد، ضمن سياسة لامركزية ثقافية.

والمهرجانات الكبرى في تونس، مثل: "قرطاج الدولي"، "الحمّامات الدولي"، "سوسة الدولي"، "بنزرت الدولي"، "صفاقس الدولي"، وصولا إلى فئة قليلة من المهرجانات التونسية المتخصّصة التي نجحت لسنوات في صناعة بعض البريق مثل "الجمّ الدولي للموسيقى السيمفونية"، و"تستور الدولي للمالوف والموسيقى العربية التقليدية"..

 كل هذه المهرجانات ومع كل دورة تواجه انتقاداتٌ بـ"إهدار العملة الصعبة"، من خلال استضافة فنّانين من بلدان عربية وأجنبية، بينما يُواجه البلد أزمةً اقتصادية.. وهو ما يدفع القائمين على بعضها إلى التركيز على الأسماء التونسية، أو الاقتصار عليها في بعض الأحيان، مما أفقد معظمها صفة "الدولي" التي لازالت مرافقة لأسمائها رغم محليتها.

تأثيرات أكثر خطورة لهذه الانتقادات، التي ركب عليها البعض، سواء عن دراية أوجهل، تكاد تكون من باب تهديد العلاقات بين تونس وبعض الدول، خاصة إذا ما كان الهجوم على استقطاب فنانين من جنسية بعينها، بينما يعمل فنانو تونس لدى هذا البلد في أوضاع محترمة، دون أن نتعرض لوكلاء الفنانين في تونس الذين يأخذون هذا النقد طريقا لتصفية حسابات موكليهم ضد أعدائهم من الفنانين، أو حتى لمجرد إزاحة اسم وإضافة بديل.

 

تداعيات الانفلات

هذه البروباغندا استغلها وكلاء الفتن السياسية لمحاولة استنباط حرب اعلامية-حتى وان كانت في ظاهرها فنية-يشتعل فتيلها من بلد تعمل دبلوماسيتها بكل جهد من أجل تحسين علاقاتها، وتحديثها مع أصدقائها واشقائها، بعد عشرية كانت سببا في عزلتها، وفق سياسات ظلامية رامية إلى اخراجها من مصاف الدول إلى أرض دعوة، ومن ثم أرض جهاد.

و إن كان الاسفاف في كبريات المهرجانات -"قرطاج مثالا"- ليس من تداعيات هذه الانفلاتات، إلا أن ما وقع ويقع فيها يندرج ضمن نظرية المؤامرة، بعد أن نجحت دبلوماسية وزارة الاشراف في أن تلقف الأزمة قبل وقوعها، فأصبح الانتقام منها "مشروعا في لغة جوقة المتآمرين".

لكن إدراك القيادة السياسية لواقع وحقيقة ما يحاك، يجعل من المستبعد تحميل وزارة الاشراف تراكمات 10 سنوات، والاكتفاء بتعليمات معدلة لخارطة الطريق يصبح من حسن الفطن، وأن البحث عن بدائل هو تنفيذ لمآرب طيور الظلام.

هذه الأزمة ظهرت مع وفرة المهرجانات الثقافية في تونس التي كرست للرداءة وإفساد الذوق العام في بلد كان الصعود على مسارحه شرفا لا يناله إلا صفوة الفنانين والمثقفين حول العالم.

 

تمعش يحميه القانون

هذه التخمة المهرجانية في تونس، أفرزتها الأطر القانونية التي تم وضعها بعد يناير 2011، لتوسيع فرص تشكيل الجمعيات ومنظمات المجتمع المدني، في سياق دعم الديمقراطية وحرية التعبير وتنمية روح المواطنة والوطنية، فاتجه حوالي 20 بالمائة منها نحو الأنشطة الثقافية، حيث حازت الجمعيات الناشطة في هذا المجال على نصيب الأسد فأصبح عددها 4957 جمعية، من بين 24826 وهو العدد الجملي للجمعيات المدرجة بالسجلات التونسية، بحسب تاريخ آخر تحديث،  14/07/2023.

هذه الجمعيات تتلقى دعما من وزارات السياحة والثقافة وأحيانا الشؤون الاجتماعية والتربية، ناهيك عن دعم من المندوبيات الجهوية لهذه الوزارات في الأقاليم التي تتبع لها تلك الجمعيات.

من هنا وقع تحويل وجهة المهرجانات وأخذها نحو نشاطات اعتباطية وعشوائية باسم الفن والثقافة، وهذا ما آلت إليه الكثير من المهرجانات، وأثرت  بما تنهله من وزارة الإشراف على كبريات المهرجانات.

وفي ظل قانون فضفاض ومتساهل في إنشاء الجمعيات، التي تحدد بدورها إقامة المهرجانات والملتقيات في مختلف المناطق التونسية، أصبح أصحاب المنافع الشخصية والفئوية الضيقة الذين تتحكم فيهم المصالح وتطغى عليهم المحسوبيات هم من يقفون وراء هذه المهرجانات، ويتقدمون بطلباتهم كل موسم إلى وزارة الثقافة طالبين الدعم المالي واللوجستي لإقامة مهرجان ثقافي.

هذا فضلا عن هبات جهات أخرى من مؤسسات مالية ومنشآت اقتصادية عامة وخاصة، وغيرها ممن يمكن أن يساهم بأقساط يتناسب حجمها مع ثقل الجمعية وتشعب علاقاتها و"شطارة" القائمين عليها في تحصيل الدعم المالي.

أصحاب هذه الأنشطة، الذين يشبهون متعهدي الحفلات، لا أكثر ولا أقل ـ وباستثناء النزهاء منهم ـ لا يهمهم إن تطورت الحركة الثقافية في البلاد أم لا، بقدر ما يهمهم ما يصل إلى جيوبهم من أموال عند كل نشاط يصفونه بـ”الفني” و”الثقافي”.

وإذا ما اكتفى التونسي، الذي اعتاد مقارنة بلاده بالعالم الأوروبي، بالنظر إلى محيطه الإقليمي والعربي، يجد نفسه قد تخلف عن ركب التنمية الثقافية مقارنة ببلدان مثل المغرب ومصر ودول الخليج العربي التي انطلقت في هذا المجال بصفة صاروخية، بينما البلد الذي طالما تفاخر بالريادة في المجال الثقافي، يعيش واقعا مأزوما وبائسا.

 

احصائيات ودلالات

العدد الجملي للجمعيات المدرجة بالسجلات التونسية وصل إلى 24826 جمعية، بحسب تاريخ آخر تحديث: 14/07/2023، وهذا العدد في مصر حوالي 55ألفا (إحصائية 2022)، وفي المغرب 44771 (عام 2011) ليرتفع إلى ل 70 ألفا في عام2012.

ومقارنة بعدد سكان كل دولة آنفة الذكر، إبان تاريخ إحصاء عدد الجمعيات على التوالي: تونس- 12.26 مليون نسمة (2021)، مصر-109.3 مليون نسمة (2021)، والمغرب-32.9 مليون نسمة (2011).

وبحسب الأرقام، فإن النسب متقاربة بين تونس والمغرب، من حيث عدد الجمعيات والسكان، بينما هي بعيدة كل البعد عنها في مصر التي تضم جمعياتها حوالي 3ملايين مواطن.

هذا الأرقام تتحدث عما بعد 2011 واهتزاز الأنظمة العربية، وإذا كان الأمر هنا يخص تونس ومصر، وهما دولتان معنيتان بهذا الاهتزاز، إلا أن ورود المغرب ضمن هذا المعادلة يأتي من منطلق نظامها السياسي (الملكية)، لنستشرف هنا أن هذه الطفرة في عدد الجمعيات جاءت نتيجة انفراط عقد الديمقراطية وحرية التعبير.. دون أن نغفل ما يكفله قانون الجمعيات من حرية الحصول على التمويل من الخارج، وهنا الحديث عن تونس، إضافة إلى التمويلات التي تحصل عليها من الدولة، لتكون تلك الجمعيات عبئا على اقتصاد يترنح على جرف مهترئ نحو الانهيار.

 

جمعيات مهرجانات "تدبير الراس"

رغم أن النّشاط المدني الجمعياتي من أهم آليات مشاركة الأفراد والمجموعات في النّهوض بواقع مجتمعاتهم والمساهمة الطوعية في حل مشاكلها الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، سواء كان في البلدان المتقدمة أو النامية، إلا أن هذا الدور الجمعياتي في تونس أصبح -بحسب التعبير التونسي الدارج- "تدبير راس"، وهنا نتحدث عن الجمعيات الثقافية.

وبدلا من أن تكون الجمعيات في تونس داعما لدور الحكومة اذا ما تأخرت أو وهنت في تلبية احتياجات  الشعوب والحدّ من مشاكله الاجتماعية والاقتصادية والثقافية، أصبحت عبئا عليها، وعلى الشعب، على الأقل في عشرين بالمائة منها.

وبعيدا عن مناقشة الفلسفة التحررية التي بُني عليها المرسوم عدد 88 لسنة 2011 المنظم للجمعيات في ذلك البلد المتعطش للديمقراطية – آنذاك- تونس، فإن الهدف من هذا القانون  كان التأسيس لمرحلة جديدة في حرية بعث  الجمعيات وتمكين منظّمات المجتمع المدني عموما، من المشاركة في بناء مؤسسات الدولة وتنمية المجتمع.

القانون كان -حسب طرافة اللسان التونسي- بمثابة "تحضير الحصيرة قبل الجامع" حيث جاء القانون بينما لم تتوفر بعد البيئة المجتمعية الرّاشدة سياسيا وفكريا وثقافيا واجتماعيا لضمان فاعلية أنشطة الجمعيات الأهلية في تحقيق التنمية.

كما أن القانون الذي تم وضعه سنة 2011، أي بعد أحداث 17 ديسمبر 2010، تزامن مع الارتجالات السّياسية والاجتماعية والاقتصادية في تونس؛ فكان تعبيرا عن سياسة الحكومة “الانتقالية” ذات المرجعية الإسلاموية منذ 2011.

إضافة إلى ذلك، تحوّل هذا القانون إلى مصدر من مصادر التشريع للفساد ولانتشار شبكات الارهاب وتبييض الأموال، لعدم توفر الحد الأدنى من قواعد الشّفافية والمساءلة والرّقابة على أنشطة الجمعيات وعلى مصادر تمويلها الداخلية والخارجية .

 

ضبابية وقصور

الخصائص الهيكلية للجمعيات في تونس  تعكس غياب البعد المؤسّساتي والإداري لعدد مهم من هذه الجمعيات، وهو البعد الذي يجعلها  قادرة على حمل مطالب الأفراد والتأثير في سياسات الدولة.

وتجلى هذا القصور في عدم الوضوح في أهداف هذه الجمعيات وغياب الشفافية في تسييرها، وسوء توزيعها الجغرافي وأصنافها وخصائصها الهيكلية والمالية والإدارية.

ومن أخطر مظاهر القصور التنظيمي، فبالإضافة إلى الأنشطة العشوائية لعدد من الجمعيات في تونس بعد يناير 2011، نجد غياب المقرّات الرّسمية لأكثر من 70%  من هذه الجمعيات، وغياب الهيكلة الإدارية الرّسميّة لها التي يمكن من خلالها الاتصال بها أو التعامل معها بشكل رسمي؛ بل مازالت  أغلب الجمعيات الناشطة في تونس ”إفتراضية”  وليس لها مواقع على صفحات “الواب” ولا حتى عناوين مراسلة بريدية، ولا تعرف مؤسّسات الدولة مواقعها وليس لها فكرة عن أنشطتها ولا حجم تمويلاتها أو مصادرها.

هذا القصور التنظيمي يضرب الممارسة الديمقراطية في مقتل، وهي أهم الأهداف من توسيع الأطر القانونية لإنشاء تلك الجمعيات، لأن شروط التأسيس والفاعلية غائبة، ناهيك عن أن البيئة الاجتماعية والسياسية التونسية الحاضنة لها مازالت فاقدة الحد الأدنى من روح وقيم المواطنة.

 

أموال دون محاسبات

وتُعدّ مسألة التمويل من أبرز المسائل والإشكاليات، طبقا لقانون ضبط مصادر التمّويل المختلفة للجمعيات في تونس، لكن على أرض الواقع تجلّى القصور في المستوى المالي أكثر من المستويات الأخرى نتيجة غياب الكشوفات المالية وعدم وجود الشفافية والمراقبة  لمصادر تمويلاتها، خاصة إذا كانت من جهات خارجية.

وهناك نسبة هامة من هذه الجمعيات لا تحترم الشّفافية التّمويلية، حيث أن 37% من الجمعيات لا تقوم  بالنشر السنوي لقائمات المداخيل والمصاريف المالية، كما أن 29% من الجمعيات في تونس لا تملك حسابًا مفتوحًا باسمها، خاصة الجمعيات ذات الصبغة “الخيرية” و”الدينية”؛ وهي المرتبطة في تمويلها بأحزاب سياسية وجهات خارجية؛ وذات مصادر غير مصرح  بها وغير خاضعة لأي مراقبة من قبل مؤسّسات الدولة.

 

رسالة مفتوحة

لا يوجد قادر على انكار فائدة العمل الجمعياتي، ودور منظمات المجتمع المدني في تقويم وتعديل دور المواطن والحاكم في آن واحد، لكن يبقى الترسيخ لروح المواطنة إرث ثقافي كان لابد من تكريسه في المجتمع قبل تشريع القانون الذي يسمح بالعمل الجمعياتي لكل من رأى في نفسه القدرة على أن يكون عمله متناغما مع حركية المنظومة التنموية في البلاد، لا أن يكون عبئا ومعوقا لها، حتى وأن سلمت النوايا، فما الحال والنوايا ليست الارتقاء بمصلحة البلاد والعباد؟.

وإن كانت مراجعة القوانين التي فتحت الأبواب على مصاريعها لهذا الانفلات، ستواجه انتقادات المتشدقين بالديمقراطية، فلا سبيل غير تفعيل قوانين المحاسبة والمراجعة للفائدة  المحققة من تلك الأنشطة، وبخاصة الثقافية، وتأثيرها على المصلحة الوطنية.