الرؤية المصرية- متابعة: عوض سلام :-في قلب قمرت شمال تونس العاصمة، انعقدت ندوة علمية بعنوان: "التعاون في مجال الآثار التونسي-الفرنسي: توجهات جديدة ونتائج حديثة" على مدار يومي 23 و24 أكتوبر 2025، احتفالا بأكثر من 70 عامًا من الشراكة الأثرية التونسية-الفرنسية، كإعلان عن مشاريع طموحة مثل برنامج ماستر متخصص ودعم مالي يفوق نصف مليون دينار تونسي، لتعزيز الحفاظ على مواقع تاريخية أيقونية مثل قرطاج وكركوان، وسط تأكيدات قوية على دور هذه الشراكة في دفع عجلة التنمية المستدامة عبر حوض البحر المتوسط، وفقاً لما أفاد به منظمو الحدث في بيانات رسمية.
اقرأ ايضأ:-
شهدت الفعاليات، التي انتظمت تحت اشراف وزارة الشؤون الثقافية التونسية والمعهد الوطني للتراث ووكالة احياء التراث والتنمية الثقافية، بالتعاون مع السفارة الفرنسية، تجمعًا لنخبة من الباحثين والأثريين، حيث أكدت سفيرة فرنسا آن غوغان في كلمتها الافتتاحية على "الشراكة الاستثنائية" التي تربط المؤسسات التونسية بالفرنسية.
- تونس وفرنسا يعيدان رسم خريطة التراث الأثري: مؤتمر علمي يحتفل بـ70 عاماً من الشراكة ويطلق مبادرات طموحة للحفاظ على كنوز المتوسط
شهدت فعاليات الندوة العلمية، التي نظمها المعهد الوطني للتراث التونسي بالتعاون الوثيق مع السفارة الفرنسية في تونس ووكالة أحياء التراث والتنمية الثقافية تحت إشراف وزارة الشؤون الثقافية التونسية، تجمعاً واسعاً لنخبة من الباحثين والأثريين والخبراء من كلا البلدين، حيث ألقت سفيرة فرنسا "آن غوغان" كلمة افتتاحية مطولة أكدت فيها على "الشراكة الاستثنائية والمتميزة التي تربط بين المؤسسات التونسية والفرنسية في مجال الآثار، وهي شراكة ليست مجرد تعاون فني بل هي جسراً حضارياً يمتد لأكثر من 70 عاماً، ساهمت في كشف أسرار حضارات قديمة متنوعة من العصور البونية مروراً بالرومانية وصولاً إلى الإسلامية..
وتابعت تقول:"ونحن اليوم نعلن عن إطلاق مشروع جديد مدعوم بصندوق 'فريق فرنسا' الذي يركز على جوانب متعددة تشمل التدريب المتقدم للكوادر الشابة، والحفاظ الفعال على التراث الثقافي، والتعزيز التقني للمواقع الأثرية، بما في ذلك إنشاء برنامج ماستر أكاديمي مشترك يجمع بين الخبرات العلمية الثنائية ليخرج جيلاً جديداً من المتخصصين قادرين على مواجهة تحديات الحفاظ في عصرنا الحالي".
وأضافت "غوغان" في كلمتها الافتتاحية أن هذا التعاون يعتمد على عمل ميداني مباشر إلى جانب تبادلات تدريبية وأكاديمية مكثفة، مما دفع بمشاريع متعددة نحو تقدم ملحوظ يعزز المعرفة المشتركة ويساهم في تطوير التراث بطرق مبتكرة تعتمد على أحدث المناهج العلمية والتقنيات الحديثة.
من جانبه، نقل "داوودا سو"، ممثل وكالة إحياء التراث والتنمية الثقافية، تحيات المديرة العامة ربيعة بلفقيرة في كلمة ترحيبية مفصلة القاها نيابة عنها، حيث وصف تونس بأنها "أرض الاقتراضات والانتقالات الثقافية، والانهيارات التاريخية والاستمراريات الحضارية التي تتجلى في مواقع أثرية عديدة مثل أوتيكا وبيلاريجيا ودقة وسبيطلة وحيدرة، وهذه المواقع ليست مجرد أطلال بل هي شهادات حية على حضارات ماضية غنية بالأسرار والدروس..
واضاف:"وقد ساهمت شراكتنا النموذجية مع الجهات الفرنسية في تعميق فهم هذا التراث من خلال إنجازات بارزة مثل نشر كتب رئيسية عن موقع أوتيكا، منها 'عودة اكتشاف مدينة تونسية قديمة' و'أوتيكا: مستعمرة محاربي الفيلق الثالث عشر - تاريخ، حضرية، حفريات وتعزيز الآثار'، والتي توثق بشكل دقيق التاريخ الحضري والعسكري لهذه المدينة من خلال حفريات مشتركة استخدمت أحدث التقنيات لاستخراج معلومات جديدة تساهم في إعادة بناء الصورة التاريخية الكاملة".
وأكد "سو" أن هذه الندوة، التي تستمر ستمر حتى 25 أكتوبر 2025 تمثل امتداداً لتقليد علمي عريق يجمع بين وزارة الشؤون الثقافية التونسية والمعهد الفرنسي في تونس وجامعات مشتركة، مشيراً إلى أهمية الجهود البشرية المتكاملة من مؤرخين وأثريين ومهندسين معماريين ومحافظين ومرممين ومصورين وطلاب وعمال، الذين يشكلون الأعمدة الأساسية لهذا التراث المشترك الذي يتجاوز الحدود الجغرافية.
أحد أبرز المواقع التي يركز عليها التعاون
امتدت المناقشات على مدار اليومين الأولين، حيث ركزت الجلسات على اتجاهات مبتكرة في البحث الأثري، مع التركيز على تقديم التقدم الأخير في دراسة المواقع الأثرية، وتقييم الإسهامات الجديدة في فهم التاريخ التونسي.
- في اليوم الأول، ترأس "لورانت ترانوي" جلسة افتتاحية استعرضت اكتشافات حديثة في مواقع مثل حيدرة وقرطاج، بمشاركة فرق بحثية من جامعة أكس-مارسيليا الفرنسية، فيما سلطت الجلسة التالية الضوء على دراسات قرقنة وجرجبس تحت إشراف كاتيا شيور ونيكولا كارايون، وقدم فتحي بجاوي مشروع "شبكة أرشيف التراث الشمال أفريقي" الذي يهدف إلى توثيق رقمي شامل ومتكامل للتراث الإقليمي باستخدام تقنيات حديثة تضمن الحفاظ الرقمي طويل الأمد.
- أما في اليوم الثاني، فقد قاد سمير عون الله وفيرونيك بروكييه-ردة جلسة تناولت تأثير الورش النحتية في إفريقيا الرومانية، مع مساهمات مفصلة من فرانسوا بارات حول كيفية تأثير هذه الورش في تشكيل الهوية الثقافية الرومانية في المنطقة..
- وشمل البرنامج زيارات ميدانية مباشرة إلى مواقع بارزة مثل قرطاج والمتحف الوطني في باردو، إلى جانب مناقشات عميقة حول التعاون مع جامعتي تونس المنار وبربينيان، مما يعكس دمجاً سلساً بين البحث العلمي النظري والتطبيق العملي على الأرض.
وقد أبرز مدير المعهد الوطني للتراث، طارق البكوش، في تصريح خاص وموسع لشبكة "الرؤية المصرية"، أن "التعاون التونسي-الفرنسي في مجال التراث الثقافي يمتد لأكثر من سبعين عاماً، محققاً إنجازات بارزة ومؤثرة بدأت منذ عهد البايات وقبل الاستعمار، وأثمرت عن اكتشافات أثرية مهمة في مواقع متنوعة مثل قرطاج وبولا ريجيا وهيدرا وسفاقس، وقد وقعنا سبع اتفاقيات تعاون رسمية ساهمت في تعزيز قدرات الباحثين والمحافظين التونسيين من خلال تبادل المعرفة العلمية والتقنية المتقدمة، مما أدى إلى جرد علمي دقيق وشامل شمل حوالي مليون قطعة أثرية، وساهم في توثيق المعالم والمواقع الأثرية التي كانت مهمشة سابقاً، وبالتالي إثراء فهمنا العميق للتاريخ التونسي الغني بالتنوع الحضاري".
وأضاف "البكوش" أن المعهد يعمل على نشر الوعي الثقافي في مختلف المناطق التونسية بدعم من الشراكة الفرنسية، عبر إصدارات متخصصة ومبادرات توعوية واسعة النطاق، مشدداً على أهمية التعاون مع الجامعات الفرنسية والألمانية لتطوير مناهج البحث التاريخي المتطورة، مما يعزز مكانة تونس كمركز إقليمي رائد للدراسات التراثية، وأنهم يسعون لتقديم الحقيقة التاريخية من خلال بحوث علمية مدعومة بأدلة قوية، معتبراً أن هذا التعاون يمثل خطوة كبيرة نحو تحقيق أهداف التنمية الثقافية المستدامة.
بدوره، شدد وليد بن أحمد، مدير الاستثمار الثقافي بوكالة إحياء التراث والتنمية الثقافية، في تصريحه على أن "التعاون التونسي-الفرنسي في مجال التراث الثقافي، الذي يمتد لسبعين عاماً كاملة، حقق إنجازات كبيرة ومتنوعة في الاكتشافات الأثرية واللغوية، ويشمل تعاوناً وثيقاً بين المعهد الوطني للتراث ومعهد الكوراسي في تونس، بهدف تعزيز التثمين الثقافي وتطوير استراتيجيات جديدة ومبتكرة للحفاظ على الموروث الحضاري التونسي الغني، وأن الملتقيات الدولية مثل هذا المؤتمر تسهم بشكل كبير في تبادل الخبرات بين الباحثين التونسيين والفرنسيين، مما يعزز الجهود العلمية والتوعوية على نطاق واسع".
وأضاف بن أحمد أن الوكالة منفتحة على الشراكات التي تضيف قيمة حقيقية للمواقع الأثرية مثل قرطاج والمتحف الوطني بباردو، من خلال تنظيم زيارات ثقافية منظمة وفعاليات توعوية مستمرة، مشيراً إلى أن التعاون خلال السنوات الخمس الأخيرة أثمر تنظيم العديد من الملتقيات المشتركة التي أسهمت في تطوير طرق تسجيل وتوثيق التراث باستخدام تقنيات حديثة، بالإضافة إلى إعداد تقارير علمية مفصلة تُستخدم في نشر المعرفة على المستوى الدولي، وأن هذه الجهود تعكس التزام الوكالة بتعزيز الهوية الثقافية التونسية وتطوير استراتيجيات مستدامة للحفاظ على التراث، داعياً إلى تعميق التعاون مع الجانب الفرنسي وغيره من الشركاء الدوليين، مؤكداً أن "التثمين الثقافي هو استثمار حقيقي في الهوية الوطنية وجسر قوي للتواصل الحضاري بين الشعوب المختلفة".
أما سمير عون الله، مدير البحوث الأثرية بالمعهد الوطني للتراث، فقد أكد في تصريحه الشامل أن "التعاون التونسي-الفرنسي في مجال التراث الثقافي حقق إنجازات كبيرة ومتنوعة، لا سيما في صيانة وتثمين المواقع الأثرية بشكل شامل، وأن هذا التعاون لا يقتصر على التنقيب الأثري وحده بل يشمل مشاريع صيانة رئيسية لمعالم تاريخية مثل معبد ساتورد في دقة وقرطاج، والتي تمت بتمويل مشترك وخبرات تقنية متبادلة استخدمت أحدث الطرق لضمان الاستدامة طويلة الأمد".
وأشار عون الله إلى أن هذه الجهود أسهمت في توثيق وتسجيل مئات الآلاف من القطع الأثرية خلال السنوات الأخيرة، مما عزز مكانة تونس كمركز ثقافي إقليمي بارز، وأن المشاريع تشمل تدخلات ميدانية في عدة ولايات تونسية مع التركيز على تطوير استراتيجيات مستدامة للحفاظ على التراث.
وحول آفاق التعاون المستقبلي، أعرب عن استعداد الجانب التونسي لتعميق الشراكة مع فرنسا من خلال مشاريع مبتكرة مثل تطوير تقنيات الصيانة الرقمية وتنظيم زيارات ثقافية منظمة للمواقع الأثرية، مشدداً على أهمية الدعم اللوجستي والمالي من كلا الجانبين لضمان استمرارية هذه المبادرات،
واختتم قائلاً: "التعاون الثقافي ليس مجرد مشاريع مؤقتة، بل هو استثمار عميق في الهوية الوطنية وجسر حيوي للتواصل الحضاري بين الشعوب على مدى الأجيال".
يعود تاريخ هذا التعاون إلى عام 1972 مع حملة قرطاج الدولية، حيث شاركت فرنسا بنشاط كبير في المشروع الدولي، مع اجتماعات مشتركة أدت إلى اتفاقات ركزت على حفريات في تل بيرسا ودراسات مفصلة في توفيت سالامبو، الموقع البارز ذو القيمة الهوية العالية، مما أدى إلى كشوفات غيرت فهمنا للحضارة البونية.
اليوم، يتجاوز التعاون البحث الأكاديمي ليصبح أداة تنموية حقيقية، يحول التراث إلى جسر حضاري بين الماضي والمستقبل، مع دعم مالي كبير مثل تسليم معدات قيمة لمشروع "هيا بين ثينا" قرب صفاقس، الذي انطلق في أبريل 2024 ويجمع بين محاور التدريب المتخصص والبحث العلمي والتعزيز التقني، مستفيداً من جهود أثريين تونسيين وفرنسيين من جامعة إيكس مارسيليا.
في سياق إقليمي أوسع، يبرز هذا المؤتمر كيف يمكن للشراكات الثقافية أن تواجه تحديات الحفاظ في حوض المتوسط، حيث تونس، كمهد لقرطاج – التي كانت ثاني أكبر مدينة في الإمبراطورية الرومانية – وكيركوان – المدينة الرابعة في الإسلام والأولى عربياً في أفريقيا – تتقاسم تراثاً يجمع بين شعوب متنوعة.
ومع مشاريع مثل عمليات الحفر في كركوان بقيادة إميلي بورتا وإميلي بانجيبانيا، يجيب الباحثون على أسئلة تاريخية معقدة عن الحياة اليومية في العصور القديمة، مما يعزز الوعي الثقافي ويفتح آفاقاً للسياحة الثقافية المستدامة.
يشارك في هذه الجهود فرق بشرية متنوعة ومتكاملة من مؤرخين ومهندسين ومحافظين ومصورين وطلاب وعمال، الذين يشكلون الأعمدة الرئيسية لهذا الإرث المشترك، ومع إحياء ذكرى الراحلين الذين ساهموا في بنائه، يؤكد المؤتمر التزاماً قوياً بالدقة العلمية والمسؤولية الاجتماعية في زمن يزداد فيه الاهتمام بالتراث كمحرك للتنمية الاقتصادية والثقافية.
مع تزايد الاهتمام العالمي بالتراث كمحرك للسياحة والتنمية، يطرح هذا الحدث تساؤلاً جوهرياً: كيف يمكن لشراكات مثل التونسية-الفرنسية أن تحول التراث من مجرد أطلال تاريخية إلى محفز قوي لمستقبل مستدام يجمع بين شعوب حوض المتوسط ويحافظ على هويتهم المشتركة؟