كل شيء من إنجاز المجتمع المدني
سألنا السيد رفيق عمارة أن يعطينا فكرة عن احتفالات المولد لهذه السنة ومن ساهم فيها خاصة أن بعض الاطراف السياسية والبرلمانية نسبت إلى نفسها نجاح هذه التظاهرة أو جزء منها على الأقل فقال : " بعد الخيمة التي أنجزناها مؤخرا بشارع الحبيب بورقيبة بالعاصمة ( نقلنا القيروان إلى العاصمة ) والتفاعل الكبير معها أردنا أن نعطي الاحتفالات بالمولد النبوي الشريف البعد الذي تستحق أمام تراجع الاهتمام بهذه التظاهرة العريقة خلال السنوات الأخيرة .
وقد ساهمنا مع جمعية " مهرجان المولد النبوي الشريف " من خلال التنظيم والـتأطير .
وقد دام المهرجان هذه السنة أسبوعا كاملا ولم يحظ للأسف الشديد باهتمام كبير من قبل العديد من وسائل الإعلام باستثناء قناة نسمة وقناة تلفزة – تي – في والزيتونة .
وقد أنجزنا عرضا ضوئيا وصوتيّا( Mapping ) . وشمل البرنامج فقرات متنوعة من الانشاد الديني والسلامة وتجويد القرآن الكريم والرسم والشعر ... وغير ذلك من النشاطات التي تختص بها هذه المناسبة .
وبما أن الخيمة التي أقمناها في العاصمة جلبت الانتباه فقد حاولت بعض الأطراف أن تركب على الحدث وأن تربط بين زيارة رئيس الحكومة إلى القيروان وبين هذه الاحتفالات التي أؤكّد أن مكونات المجتمع المدني هي التي قامت بها وأنه لا يحقّ لأحد أن يدّعي أنها ساهم فيها باستثناء وزارتي الثقافة والسياحة اللتين ساهمتا من خلال تسديد نفقات بعض الفرق المشاركة في المهرجان . وبالتالي فلا أحزاب ولا نواب ولا جهات رسمية ساهمت في هذا الحدث."
تجاهل تاريخي ؟
من خلال " مؤسسة القيروان " يحاول السيد رفيق عمارة وكل من معه ويشاركونه أفكاره وقناعاته أن يعيدوا للقيروان ما تستحق . وفي هذا الإطار يقول رئيس هذه المؤسسة : " عندما شرعنا في العمل في هذه المؤسسة التي نعتبرها ثقافية بالأساس صدمت بالواقع الذي تعيشه القيروان كمدينة وكولاية .
فاحتفالات المولد تقلّص الاهتمام بها على غرار ما يحدث مع القيروان كولاية بأكملها منذ سنوات الاستقلال الأولى . فمنذ أن أعلن متظاهرون سنة 1963 معارضتهم لبورقيبة حتى دفعت الجهة بأكملها الثمن باهظا . وتواصل هذا التجاهل وهذا التهميش عقودا من الزمن حيث لم ينجز فيها سوى مصنع لتركيب السيارات ومصنع للتبغ " صحي جدا " ...
وبناء على ذلك لا تنمية في القيروان ولا مشاريع ولا تشغيل ولا أي شيء . وهذا الوضع أجبر ما لا يقل عن 17 ألف عائلة قيروانية على الهجرة إلى مدن أخرى أهمّها حمام الأنف والمرسى وأريانة . وهذا الوضع أفرز مدينة وحيدة كبيرة في الولاية وهي القيروان والبقية ريف لا شيء فيه .
وللأسف الشديد خلق هذا التصحّر في كل شيء وضعا خاصا للقيروان حيث باتت تتصدّر الجريمة وتتصدّر الأمية والجهل وتتصدر نسبة الفقر والتهميش وتتصدر نسب الانتحار خاصة في صفوف الشباب والأطفال ... إضافة إلى انتشار المخدرات وباقي مظاهر الجرائم بمختلف أشكالها . ومثلما قلت في البداية فقد صدمنا بهذا الواقع المرير للقيروان . وتزيد الصدمة عندما نعرف أن القيروان غنية جدا بالتاريخ والأحداث التي تجعل منها واحدة من أكبر مدن العالم العربي الإسلامي لو توفرت العزائم وتم تجنيبها الحيف والظلم اللذين عانت منهما كثيرا."
من أجل إخراج القيروان من أسوارها
أمام هذه الوضعية الصعبة هناك بالتأكيد عمل كبير ما زال مطروحا لتغيير الواقع نحو فضاء آخر أوسع وأحسن وأنفع . وفي هذه النقطة المهمّة يقول رئيس " مؤسسة القيروان " : " إن هذه الجمعية ثقافية بالأساس . ونحن نؤمن بأن الثقافة يمكن أن تغيّر الواقع من النقيض إلى النقيض . ولأن القيروان عاشت عصورا طويلة تحت التجاهل والتهميش فقد حان الوقت ليخرجها أبناؤها من أسوارها . وعندما أطلقنا عليها تسمية " أم المدائن " فلأنها بالفعل كذلك . فهي أول مدينة عربية إسلامية في شمال إفريقيا وقد أنشأت قبل القاهرة وقسنطينة وغيرهما .
نحن نحاول أن نخرج كنوز القيروان وهي كثيرة جدا . ففي متحفها كنوز لا يتصوّرها العقل . والقيروان أنتجت حوالي 400 عالم من أفضل العلماء لطن 90 في المائة منهم ما زال مغمورا . وفي المتخف يوجد 70 ألفا من المخطوطات منها حوالي 35 ألفا خطّت على الرقّ ( الجلد ) بينما كتبت مخطوطات إسطنبول على سبيل المثال على الورق ...
وفي القيروان يوجد أيضا " المصحف الأزرق " ومصحف أم ابن باديس الواقع في حوالي 5000 صفحة ما زال منها 2700 صفحة في القيروان وهي صفحات تساوي الكثير لو أننا نعرف كيف نسوّق لها سياحيّا وثقافيا ... وفي القيروان يوجد أقدم منبر في العالم الإسلامي كان قد أنشأه الخليفة العباسي من الخشب الصافي الثمين قبل أن يذهب إلى العراق وينشئ بغداد . كما يوجد في القيروان أقدم محراب في العالم الإسلامي وهو أقدم حتى من محراب القدس ...
ونحن نعتقد أن كافة هذه الكنوز المنسية المهملة يجب أن تخرج إلى النور وأن نستغلّها لإعادة الإشعاع إلى القيروان وبالتالي إعادة إشعاع لتاريخ بلادنا . ويكفي هنا أن ننظر كيف يفعل غيرنا أحيانا من خلال معلم تاريخي بسيط ( أو من خلال معلم وهميّ أحيانا ) فيجعلونه قبلة الزوار من كافة أنحاء العالم. "
هكذا يعود البريق إلى القيروان
سألنا السيد رفيق عمارة كيف يمكن فعليّا إعادة البريق إلى القيروان ونفض الغبار عن كل هذا المخزون المنسي فقال : " نحن لنا تحركات عديدة في العديد من أنحاء العالم . نحن نبحث عن تمويلات للمتحف والمعالم الأخرى لكن برؤوس مرفوعة لأننا نساهم في إحياء تاريخ لا يهمّنا نحن فقط بل يهمّ البشرية جمعاء .
لذلك تهتم منظمة " اليونسكو " على سبيل المثال بما نفعل . وقد وجدنا بعض الدعم من المملكة العربية السعودية . وهناك تعاون مع الأتراك من خلال تبادل الخبرات مع جامعة إسطمبول وهناك تعاون وشراكة من أجل البحث واستخراج تلك الكنوز كي يراها العالم ويعرف حقيقة قدرها . نحن نسافر إلى الخارج ونعرّف بتلك المخطوطات وبقيمتها التاريخية بالخصوص .
وهناك تعاون أيضا من قبل سفارة أمريكا ومن قبل الاتحاد الأوروبي وهناك آفاق أخرى للتعاون مع العديد من الأطراف الأخرى..."
قادرون على النهوض بكافة الجهات
ويختم رئيس " مؤسسة القيروان " هذا اللقاء قائلا : " إن كافة جهات البلاد تقريبا تزخر بالكنوز الأثرية والتاريخية النفيسة التي لا تقدّر بثمن . ومثلما فعلنا نحن ( القراوة الذين يسكنون العاصمة والمدن الأخرى والقراوة الذين يسكنون في القيروان ) يمكن لكافة التونسيين أن يساهموا في النهوض بجهاتهم من خلال التاريخ والتراث .
فلو أن أبناء كل جهة تجمّعوا واتفقوا من خلال جمعية أو مؤسسة وساهموا ( كل واحد بما يقدر عليه ) في تحريك الأمور فإنهم بالتأكيد سيستطيعون القيام بأشياء كثيرة لفائدتها وسيساهمون في خلق مواطن الشغل بدل التعويل في غالب الأحيان على الدولة .
إن ما نفعله نحن يمكن أن يكون قدوة للآخرين الذين ما عليهم إلا أن يتحرّكوا وأن يعرفوا أين توجد كنوز جهاتهم حتى ينفضوا الغبار عنها وحتى يجعلوا العالم كله يلتفت إليها.