"كم هو فضيع الموت عطشا وسط البحر، أيتها الوحدة أنت وطني"... جملة لبريشت تتصدّر شاشة العرض فيما يشبه "السبورة" نفهم أننا حيال عرض أشبه بدروس الحياة، أو هكذا يبدو.
يدخل رجل إلى الركح يقلّب آلة التصوير ويتفحّص المكان باستهزاء ويغادر، الشاشة تحيلنا على زمن الأحداث ومكانها (الرباط شتاء 2010) تدخل سيدة شابة متوترة الحركات تتحدّث عن حياتها المملة وإيقاعها الرتيب، عن التصوير الذي تعتبره حياة أخرى وعالم داخلي يفضح ويعرّي ما نريد إخفاءه. تلتحق بها امرأة لا نعرف عن كانت كاهنة أم عرافة ويدور بينهما حديث عن الزواج والقضاء والقدر، عن الطفل الذي تتمنى الزوجة الشابة إنجابه منذ ثلاث سنوات، عن استوديو التصوير الذي جهّزته في شرفة بيتها لأن زوجها يمنعها من العمل في الخارج...
حديث طويل يحيل على معاناة تلك الزوجة التي تكابد الوحدة وحياتها مع زوج فُقِدتْ بينهما كل وسائل التواصل رغم أنهما تعارفا في باريس عندما كانت تدرس الفنون الجميلة ويدرس الهندسة المعمارية وعاشا قصة حب جميلة...
كلّ شيء تغيّر بعد إمضاء عقد الزواج. شخصيّة ثالثة تدخل الأستوديو، شاب مقبل على الحياة يرى الأشياء بمرآة أخرى يستلقي على العشب ويعلّق نظره بالسماء "تحت السماء نحن أطفال صغار...
كلنا عابرون" هوّ يضجّ بالحياة بذلك الجسد الجميل الذي يتباهى به أمام عدسة التصوير، وهي عود جافّ فقد كل أسباب البقاء. (الرباط خريف 2017) يتقدم زمن الأحداث، يأتي الشاب ليعلم الزوجة أنه راحل نحو سماء أخرى، يتغيّر العالم في الخارج وحياة الزوجة على حالها، لازالت تنتظر الجنين الذي سيغيّر إيقاعها، وتزداد الهوّة اتساعا بينها وبين الزوج، صراع ومشاحنات وتوتر مستمر يحاسبها على تدوينات تنشرها على صفحتها الخاصة بموقع التواصل الاجتماعي بدعوى أن الحياة الزوجية ليست مشاعا، في أوج ذلك التوتّر يسألها عن تحديد مشاكلها الشخصية يطرح السؤال أكثر من مرّة وتجيبه "لا شيء"...
انعدام المشاكل في حدّ ذاته مشكل في مؤسسة العائلة المقيتة. (الرباط ربيع 2019) أخبار القبح والدمار والقتل تستهلك الزوجة " هناك شيء نتن في المملكة" هكذا يقول الصوت وتردد الزوجة...في زمن القبح والعقم والخواء، الحلّ يكمن في التغيير... "كيف نُقنع الفراغ أن يأخذ حجما؟" سؤال آخر يظهر على الشاشة، تأتي المرأة بثوب أبيض تلبسه للزوجة ويأتي الزوج مقدّما اعتذارا يشبه جلد الذات...
لكن الحياة بينهما بلغت نفقا مظلما يدفع الزوجة لثورة عارمة تقتل خلالها الزوج خنقا ليسقط في البحيرة التي اتخذتها الزوجة ديكورا لصورها...
هكذا دخل محمد الحرّ حكّاء حياة الزوجين ليتوغّل في عمق المجتمع العربي عاكسا انكساراته وهزائمه الكثيرة وصراعه مع الذات والآخر، الغربة والوحدة الموحشة، العقد النفسية وفتور العلاقات وفقدان التواصل وكلّ الكوارث الإنسانية التي تخلّفها أزمات الأوان...
من المسؤول؟ سؤال ربّما طرح في "سماء أخرى" بأساليب مختلفة لكنّ الجواب عنه تاه أو تخفّى في ثنايا الحكاية وفي تلك الأوجاع الكثيرة التي تفرّقت على الشخصيات ليوجّه أصابع الإتهام لأكثر من جهة...
عرض كتب بجمالية عالية ونفّذ بسينوغرافيا دقيقة من خلال توليفة منسجمة من الصور والموسيقى والإضاءة لتضع الجمهور في قلب الدلالة...
محمد الحرّ وفريق العمل وخاصّة أداء الممثّلين صنعوا عملا منسوجا أو بالأحرى مطرّزا بحرفيّة فنيّة خلّفت الدهشة.