فيلم "أوكسجين"هو العمل الروائي الرابع للمخرج الفرنسي الفرنسي ألكسندر آجا، مدير التصوير مكسيم إلكساندر، والمونتير ستيفاني روش . هذا الفيلم المصنوع بعناية وحرفية عالية تقوده من بدايته إلى نهايته شخصية واحدة وهي "ليز هانسين" (الممثلة ميلاني لورون) التي تبدأ المشاهد الأولى لها وهي تحاول أن تخرج من غشاء سميك يغلفها بالكامل وبالكاد تتمكن من إخراج وجهها لكي تتنفّس، لكنها سوف تكون مقيّدة ومضطجعة في مكان ما محاط بالشاشات والبيانات الرقمية.
إنها ببساطة لا تتذكّر ولا تعلم من هي؟ ولماذا هي محتجزة بهذه الطريقة في ذلك الصندوق الرقمي المتطور، أو تلك الكابينة الرقمية؟ أيّة حيرة وأيّ هلع وأول ما سيصدمها أنه لم يبق هناك الكثير من الأوكسجين لإبقائها على قيد الحياة، وأن وسيلتها الوحيدة هي الحوار مع روبوت صوتي هو" ليو"، لكنّه يعجز عن الإجابة عن كل أسئلتها.
ينجح المخرج وقبله كاتبة السيناريو، كريستي ليبلانك في الزجّ بنا في ذلك التداخل في البناء السردي المتقن، القائم على فكرة حلّ لغز الوجود الذاتي المجهول، والمحاط بالعديد من الأسئلة، لاسيما وأن الروبوت" ليو" سوف يكشف عن صور "ليز" في مراحل مختلفة من حياتها، وبذلك نغرق في احتمالات شتى تتعلّق بمصير ليز، أهي مختطفة، وهذا ما كانت هي تظنه للوهلة الأولى؟ هل هي تحت الأرض؟ هل هي أسيرة مؤامرة؟ كل ذلك وغيره يعجز الروبوت عن تقديم إجابة عنه. لكنّه سوف ينسّق بينها وبين محقّق شرطة عبر الهاتف ويعدها بالبحث عن مكان احتجازها.
الفيلم ينجح في بثّ حالة من التشنج والتشويق في المشاهد على الرغم من الاكتفاء بمكان تصوير واحد وممثلة واحدة
مع العد التنازلي لتناقص الأوكسجين سوف تزداد الشخصية تأزّما، وهي تبحث لنفسها عن مخرج ما يجيب عن أسئلتها، وخلال ذلك تنتزع العديد من الأسلاك والأنابيب البلاستكية الرفيعة التي تتصل بجسمها، ومن ثم تكون أولى الصور التي سوف تحرّك ذاكرتها هي صور زوجها وذكرياتها معه، فضلا عن فئران التجارب وهي تنال الجوائز عن تخصّصها العلمي في تجارب تجميد الجسم لإحداث تغييرات فيه.
وفي إطار السيطرة على مسار السرد الفيلمي سوف تعزّز الشخصية أسباب المضي في هذه الدراما الغامضة، وذلك بعد النصف الأول من الفيلم الذي تصاعدت فيه جودة أداء الممثلة البارعة ميلاني لورون، حيث نقترب من حقيقة من هي ليز، إنها فقدت زوجها منذ سنوات وتسترجع ذاكرتها صورته وهو مصاب بمرض جلدي وهو يحتضر ليموت أخيرا. لكنه في الحقيقة لم يمت وإنما تم إرساله في مهمة عبر الفضاء.
وتختصر الفكرة في إخضاع الجسم إلى حالة من السبات الكامل والتنويم بربطه بأجهزة تحسّس ومغذّيات لعدة سنوات إلى حين الوصول إلى الكوكب المستهدف الوصول إليه، وأن ليز ما هي إلاّ كائن مستنسَخ عن ليز الأصلية الباحثة العالمية المرموقة التي وصلت إلى أرذل العمر فأرسلت نفسها في صورة أخرى يتراجع فيها الزمن بها إلى سنوات الشباب.
كل هذه التنويعات في الزمن والتلاعب به مصحوبا بصور متلاحقة تشحن الذاكرة وتحرّكها، فضلا عن صوت الأم وأصوات أخرى لتكتشف حقيقة وجودها المجرّد والحتمي أنها مقطوعة عن حقيقتها وذاتها إلى ذات أخرى هي نسخة مطوّرة لا أكثر.
في موازاة ذلك يشكّل المكان عنصرا ذا أهمية خاصة في هذه الدراما المتصاعدة، فالشخصية أسيرة المكان الواحد الذي تتحكّم فيه التكنولوجيا الرقمية والذكاء الاصطناعي.
وعزّز انعدام الوجود البشري قيمة المكان في هذه الدراما التي بقيت فيها النافذة الوحيدة هي ما يقدّمه الروبوت من إرشادات، ولهذا صار الخروج من نطاق ذلك المكان لا يتعدّى كونه خروجا افتراضيا نحو ذكريات أرشيفية حول ليز أن تحلّل محتواها لكي تستخرج منها ما يمكن أن يفيدها من معلومات.
الحوارات تم بناؤها بطريقة ذكيّة ومتقنة ما بين ليز وليو، فهي أشبه بعملية فكّ لغز محيّر وعليها أن تكون في منتهى الفطنة والذكاء عندما تطلب شيئا أو تسأل عن شيء، لأنه سوف يقود إلى حقيقة أخرى مخفية، ولهذا سوف توصلها تلك الحوارات المختصرة والدالة إلى حقيقة وجودها الهامشي بوصفها كائنا بشريا.
لكنها لا تختلف كثيرا عن فئران التجارب التي كانت تراودها في هلوساتها ونومها، فهي أيضا كانت مجرد تجربة بشرية.