في حين ذهب الأستاذ فتحي التريكي، مدير مدرسة تونس للفلسفة، إلى القول : " يتأمل محمد زين العابدين في هوية التونسي ويدين بقوة ما يسعى إليه البعض من سعى إلى إختزالها في تعبير واحد وثابت.
فالهوية التونسية في تقديره هي تلك الرغبة في التجاوز..." ولعله من الواضح أن محمد زين العابدين إتخذ، طوال السنوات الأخيرة، من الأطروحات والمحاضرات الفكرية التي قدمها في أنحاء عديدة من العالم ما يجعله يدفع نحو فهم جديد للثقافة، وتأويل متجدد لماهياتها الفكرية والمعنوية و البنيوية.
فهي المنطلق لديه لتجلي مفردات الوجود والوسيلة لإعادة التفكير المنبثق عن فكر مركب للمسارات التحليلية و التأويلية، بالعود الى النصوص والسياقات الجيوسياسية والاجتماعية والشعرية والجمالية والفلسفية.
و يتخذ هنا من روح "التَّونُسيّة" مرجعا لمحاولة فهم الكونيات المتعددة التي تحتضنها و تختزلها، على نقيض مفهوم "الكونية الشمولية" المتأصلة في الحضارة الغربية التي تريد فرض ذاتها بصورة مطلقة، وهي التي لا تزال تفرزانتصارالغرب و التفاوت الاقتصادي والاجتماعي والتمييز الحضاري وتفوقه التقني والثقافي مقارنة بسواه.
و أمام اللبس الواضح في فهم الثقافات و الحضارات من منظور أحادي، يقارب محمد زين العابدين في كتابه هذا "التَّونُسيّة" في صيغة الجمع للإنسانية قاطبة، ليعتبرها فكرا تأليفيا شديد التراكم من حيث المراجع و التطورالتاريخي المستمر.
ولعله يحمل المسؤولية في السياق ذاته للباحثين والمثقفين والمبدعين التونسيين الذين لم يدافعوا بالقدر الكافي عن "التَّونُسيّة" بمعنى الكونية المتعددة، و باعتبارها البناء الأكثر انفتاحًا وقدرة على احترام الاختلاف والتنوع الذي نمثل، بعيدا عن كل تراتبية أو إقصاء ثقاقي أو حضاري مسقط.
من هذا المنطلق، لعله يبدو شديد الحرص على دعوة الغرب إلى ضرورة إعادة ن يعيد الغرب قراءة تاريخ الإنسانية والتفاعل معه بالتأثر و التأثير، بدلا من التسليم بنهايته، أو بصراعات الحضارات فيه، أو بفناء هذه الحضارات بحكم ما يمثله البعض من خصوصيات غير منسجمة.
وجب تفنيد هذه الترهات في تقديره و العمل في الآن نفسه على الحضور و الفعل الإيجابيين، ليستحضر مارتن هايدغر و كتابه "الكينونة والزمن" الذي طرح مسألة الوجود بمعنى الإرادة و الفعل في الزمن من أجل إقرار الذات و فرضها.
كما يذكر محمد زين العابدين بمقولة ، "أن تصير من أنت! هكذا تكلم نيتشه" في سياق الحتمية السقراطية "أعرف نفسك بنفسك". و من هذا الاعتبار "التَّونُسيّة" كطرح تاريخي وروح تعددية للأزمنة المتعاقبة و المتواصلة والمتجددة و المتحولة بقوة الفكر والروح والخيال والابداع، بعيدا عن المحاكاة.
"التَّونُسيّة" الديناميكية المتحررة القادرة على الصمود و فرض الذات، و الحال أن الغرب في تمثله للثقافات المختلفة يميل عادة إلى استحضار ما يشكل أقلها اعتبارا و شأنا، متعللا بأوهام بالية وحجج واهية تنبني في معظمها على فكر إستعماري أو تعلات مردها ما ينتقده فيها من غلو في المحافظة الدينية.
و من الحيف عنده أن يرى بعض الغربيين في العالم الروحي و الثقافي الذي يميزنا سببا لاستحالة أن ينخرط في الواقع الحداثي الغربي والمنطلقات الفكرية المؤسسة له.
و من هنا يخلص محمد زين العابدين إلى ضرورة الدفاع عن الروح التاريخية التونسية القادرة على الارتداد ضد التبعية الثقافية العمياء، لكنه في الآن نفسه يستحضر ضرورة أن يجعل المثقف التونسي "التَّونُسيّة" تنوعا للكونيات وتفرعا لها وصوتا مختلفا عنها كذلك، جديرا بالاحترام و التنويه.
ولعله من واجب التذكير أن الكتاب الأخير هو التاسع على التوالي للباحث و الأكاديمي و الوزير الأسبق محمد زين العابدين.
فلقد سبق أن صدرله في نفس السياق "حوار ثلاثي بين فرانسيس فوكوياما ومحمد زين العابدين وصموئيل هنتنغتون"، في شكل مجموعة متكونة من سبعة كتب تناول فيها جوانب "من التفكير في اللامفكر فيه"، و ذلك إنطلاقا من مرادفات مجددة للمقاربات السياسية والاجتماعية والمباحث الإنشائية و الثقافية، و قد قدم لهذه الإصدرات أساتذة بارزون من بينهم فتحي التريكي وإليان شيرون و فرانسواز برونيل وفرانسوا دي برنارو بنجامين برو و سناء الغواتي و جيرار بيليه.
كما صدر له كتابا موسوم ب "تناظرات بين أندريه مالرو ومحمد زين العابدين" قدم إليه الأستاذ عبد الرحمان طنكول، الرئيس السابق للجامعات المغربية. كما نشيرالى أن هذه المباحث قد أثارت نقاشا وتطارحا في عديد المنابر العالمية، الجامعية منها و الثقافية، و اهتماما و تنويها لقيمة مضامينها المعرفية إضافة إلى جرأتها ونوعيتها.
و يقول محمد زين العابدين "التَّونُسيّة" روح تركت بصماتها عبر أزمان التاريخ الكوني، منذ قرطاج وقرطاجنة، وما تناقلته عبر العقل الإبداعي الإنساني العالمي و مثال ذلك أوبرا "ديدون وايني" وما تحمله من شهادة لا تمحي على قرطاج، أوبرا من تأليف الإنجليزي هنري بورسيل.