تتميز حكاية "مدق الحناء"منذ البداية بالغرابة الساحرة فكأنها حكاية من حكايات الجدات القديمة ,, حكاية تهدهد جمهور يشاهد العرض بأعين مفتوحة وعقول حائرة... لكأنها حكاية قريبة بعيدة ,, جديدة غريبة...
فهذه سفينة "نوح" وهؤلاء البشر حولها قد جاؤوا من عصور بائدة، ماحكايتهم ؟
وتأخذك الجوقة الغنائية التي تنشد عذب المواويل بايقاع موسيقي حي باعتماد العود والالات الموسيقية الشعبية العمانية الى عوالم متخيلة .. الى عالم الأساطير والخرافة والى زمن المسرح اليوناني حيث كانت الجوقة الموسيقية الغنائية تصور الصراع الدرامي تصويرا غنائيا ينير الدرب امام المشاهد لفهم والتقاط تفاصيل العرض وأبعاده وفك رموزه فتلك الفواصل الغنائية عمقت المعنى وأبرزت الازمات التي مر بها "هجرس" في كامل مشاهد المسرحية ,,
فنفهم الحكاية
ففي تلك المدينة "غير الفاضلة" يمارس ربان السفينة "رسلان " بطشه و ظلمه على سكان حقل الحناء وهناك ايضا رجل عميل اسمه هجرس"( قام بالدور عبد الحكيم الصالحي ") يتامر مع الطاغية ويبيع ضميره ويقتل صديقه طمعا في رضا الربان وتحاول أمه " قامت بالدور زينب البلوشي " التي تدق الحناء بواسطة مدق تقليدي عملاق في أغلب فصول المسرحية وكأنها في حركة نضال متواصل ومنتظم للحفاظ على خصوصية هوية مزارعي الحناء و تقاليدهم..
تحاول لومه لكن "هجرس" لا يتراجع ويكون فناءه بيده حينما يستسلم للرحي داخل مدق الحناء فتكون لحظات الوداع بين الام والابن الضال وداعا مرا يليق بمأساة هجرس الخائن على وقع انغام شعبية تنشدها الجوقة الموسيقية.
قصة "هجرس" المارق عن جنة الحناء طمعا في رضا ربان سفينة "الخلاص" قصة مؤثرة لا سيما وان مناخ المسرحية في الفصول الأولى منه يغرقنا ويغرق في السواد تخيلا ومشاهدا ثم يزجنا في فضاء يشع بالأضواء و الألوان من خلال اعتماد أضاءة ذكية تبرز تناقض مشاعر الشخصيات وتبثها في قلوب المشاهدين بثا سلسا يكشف رهافة الحس الفني لمصمم الإضاءة عبدالله.
ولعل من أبرز المشاهد البصرية المبهرة التي تم توظيف الضوء فيها توظيفا تعبيرا جميلا نذكر مشهد انفجار مشاعر الأمومة في تناقض واضح مع مشاعر الوفاء للوطن ونبذ الخائن التي عاشتها أم هجرس في لحظة نفسية حاسمة لكنها مؤلمة كانت أشبه بالدوار حين شهدت موت الابن الضال فتشت الأنوار وانفجرت الظلال على إيقاع موال جنائزي مؤلم رقصت فيه هذه الأم" جامعة الحناء "رقصا يشبه حركات نائحات الجنائز في العصور الخالية.
وقد أتقن المخرج يوسف البلوشي توظيف الموروث التقليدي العماني والإنساني عموما توظيفا فنيا باعتماد تقنيات المسرح الحديث سواء على صعيد تأمين تناسق الإضاءة و السينوغرافيا و المشاهد و الأزياء او على صعيد انسجام الأحداث الحركية والأحداث النفسية التي عاشها الشخوص طوال العرض.,
"مدق الحناء" تراجيديا تنتهي بفناء الخائن بعد قصة عذاب مرة مع الضمير لان" النهاية التراجيدية خير من تراجيديا بلا نهاية "وفي تلك النهاية التراجيدية يتطهر البطل من ذنوبه فيقوم بعملية "كاتارسيس" على المستوى المعنوي فيجلد ذاته جلدا داميا وعلى المستوى الجسدي يسرّع عملية تأكل جسده وطحن يده في مدق الحناء العملاق ليفنى كل جسده وفي تلك اللحظات المؤثرة كشف الممثل طاقة تمثيلية كبرى حققت تماهي المشاهد مع العرض. .